المتخيل التاريخي في سرديات إدواردو غاليانو

دسمان نيوز – يُجمع أكثر منظري الفلسفة التاريخية المعاصرين على أن للتاريخ تداخلا بالسرد الذي له صلة بالفلسفة، وهذا التداخل والتقارب هو ما يوسّع مفهوم الزمانية في التأريخ حتى لا تنافر بين زمان العالم المعيش المتعاقب فيزيقيا والزمان الكرنولوجي المتخيل تاريخيا. ومن ثم يمكن معالجة قضايا الزمان بمنظورات جديدة؛ فلا تعني تأرخة الموت مثلا نهاية حياة الفرد وإنما التلميح لمصلحة كيانات تستعصي على الفناء مثل الأمة والشعب والطبقة والحضارة وغير ذلك من القضايا التي لا يمكن محوها من اهتمام المؤرخ. من هنا وضع المفكر الفرنسي مارك بلوخ (1876ـــ1944) منهجا جديدا في التاريخ يُمكِّن المؤرخ من توثيق حياة المجتمعات. والهدف الاقتراب أكثر من حقيقة الزمان في دراسة الإنسان الكلي في أبعاده المتعددة. وإذا كان التاريخ علم دراسة التغيير وليس الماضي، فإن الزمان هو نتاج حركة لا تتوقف بين الماضي والحاضر ذهابا وإيابا من الماضي إلى الحاضر ومن الحاضر إلى الماضي( )، ولكن إلى أيهما يميل السرد في تجسيد التاريخ؟ هل يميل إلى التأريخ بمعناه الأرشيفي الذاكراتي أم إلى التاريخ بمعناه الزماني؟

المتخيل التاريخي
قد يبدو الأول أكثر ندرة من الثاني؛ ذلك أن توظيف التاريخ سرديا يعطي الكاتب اتساعا زمانيا في توظيف المتخيل التاريخي داخل القصص والروايات المعاصرة. وقد شجّع هذا الاتساع بعض كتّاب السرد على خوض تجربة استثمار المتخيل التاريخي في السرد بكل ما فيه من صعوبات، توكيدا للقدرة على اجتيازها وبكل ما فيها من معوقات قد لا تكون هيّنة في التطبيق قصصيا أو روائيا.

ويعد إدواردو غاليانو الكاتب الاوروغوياني سبّاقا في هذا التوظيف، مرتكنا الى ذاكرته في تأريخ التاريخ ليغدو ما هو خاص وشخصي عاما وكليا، وتحديدا في كتابه «أشباح الليل والنهار»، وعنه قال: «كل ما روي في هذا الكتاب حدث يكتبه المؤلف كما حفظته ذاكرته ولم يغير إلا بعض الاسماء. أغلب النصوص تذكارات في نص الريح في وجه الحاجة». وفي هذا الكتاب وظّف غاليانو القصة القصيرة كجنس أدبي عابر؛ فليست كتابة القصة بالنسبة إليه سوى إغماضة عين، فتتأمل الذاكرة المشهد في حاضره وماضيه. ولذلك لم يفرق الامر عند غاليانو أن يكتب عن اميركا اللاتينية كحاضر يعيش فيه أو كماض غادره منفيا الى أسبانيا، يقول في قصة «أغمض عيني فأكون في عرض البحر»: «فقدت العديد من الاشياء في بوينس ايرس لا أحد يعرف بسبب العجلة أم بسبب سوء الحظ الى أين انتهى بها الامر، خرجت ومعي القليل من الملابس وحفنة من الاوراق». 

الذاكرة والسيرة

ومثلما أن القصة القصيرة عابرة على التاريخ فهي عابرة ايضا على المذكرات والسيرة الذاتية بوصفهما نوعين سرديين متماهيين داخل قالبها، مما يسهل أمر التجسيد للزمان الثالث، وقد اجتمع السرد بالتاريخ والذاكرة لينتجا التأريخ الذي يبدأه غاليانو من أول لحظة تأكد فيها أن للزمان في حياة الإنسان حضورا «إنها ساعة الأشباح أستحضرها، أطاردها، أصطادها، أرسمها بالتراب والدم على سرير الكهف. أطل على نفسي بعينيّ الإنسان الأول، وأشعر طوال الاحتفالية بأن ذاكرتي تتسع لكل تاريخ العالم منذ أن حك ذلك الإنسان حجرين ليتدفأ بالنار الأولى».

واستحكام التاريخ/التأريخ كزمان ثالث على غاليانو يتضح بشكل لا ريب فيه في هذا النوع من العبور القصصي القصير على الذكريات والسير، فيجتمع الألم باللذة والأسى بالفرح حتى كأن (في الجوهر ككل شيء مسألة تاريخ) وهو عنوان لقصة قصيرة جاء فيها «كان الاتروسكيون قبل الميلاد بقرون عديدة يدفنون موتاهم بين جدران تتغنى بفرح الحياة. في عام 1966 نزلنا برفقة غرلاسييلا الى المقابر الاتروسكية وشاهدنا رسومات تمثل عشاقا يستمتعون بالحب بكل الوضعيات، اشخاصا يأكلون ويشربون بالإضافة إلى مشاهد احتفال موسيقية كنت قد رُوضت كاثوليكيا على الألم. وقد اذهلتني هذه المقبرة التي كانت تمثل الفرح».

فالذكريات هي لوحدها زمان تقويمي لا تأريخ أو تاريخ ينتجانها، بل هي التي تنتجهما ولهذا يجعل غاليانو للزمان لسانا به يقول ما يريده. واقدام الزمان وافواهه هو الانسان، نقرأ في قصة «الزمن يقول»: «من زمن نحن. نحن أقدام الزمن وأفواهه وعاجلا أو اجلا مثلما هو معروف ستمحو رياح الزمن الاثار. عبور اللاشيء خطوات اللا أحد؟ أفواه الزمن تروي الرحلة. قبل الما قبل في أزمنة طفولة العالم عندما لم تكن ثمة الوان أو اصوات كانت هي الطحالب الزرقاء موجودة وكانت تطلق اوكسجينا فمنحت لونا للبحر والسماء». وهو يرمز بالطحالب الى الذاكرة، وما ان غادر العالم طفولته حتى تحولت ذاكرته الى تاريخ فتغيرت الطحالب من لونها الازرق إلى الوان أخرى.

وإذا كان توظيف غاليانو للذاكرة قد أفضى إلى ترجيحها على سردية التاريخ وتأريخيته، فإن هذه الذاكرة تفتح المجال واسعا لسؤال يفرض نفسه أكثر من ذي قبل وهو كيف يمكن للتأريخ أن يكون لوحده سردية تاريخية؟

الفهم الطباقي للزمان

أكد ميشيل بوتور أن توظيف التأريخ في السرد يعني استحالة العودة إلى ماضي الأشخاص الذين صادفناهم والى الذاكرة وكل ما هو داخلي، بينما يُفضي توظيف التاريخ في السرد نفسه إلى رؤية الأشخاص والأشياء من الخارج من خلال سارد يخاطب السامعين بشفتيه ويساوي بين سامعيه وأبطاله راويا الحوادث على وفق زمانية سردية (طباق الزمني) فيصبح الوقت الذي تستغرقه القصة كأنه اختصار الوقت الذي استغرقته المغامرة في الأصل.

ولقد تمثل غاليانو هذا الفهم الطباقي للزمان الذي كانت قد تمثلته الشعوب في طفولتها الاولى (أبناء المايا هم معلمون قدماء في هذه الاسرار، لم ينسوا أن من صاغنا هو الزمن وأننا مصنوعون من زمن يولد بين موت وموت. وهم يعرفون أن الزمن يسود ويتحكم ويسخر من المال الذي يريد أن يشتريه ومن الجراحات التجميلية التي تريد محو آثاره ومن أقراص الدواء التي تريد إسكاته ومن الآلات التي تريد قياسه).

وما كان للتقويم أن يكون صيغة ثالثة للزمان إلا لأنه (أول جسر تنشئه الممارسة التاريخية بين الزمان المعيش والزمان الكوني وهو خلق لا يصدر عن أي من هذين المنظورين للزمان، برغم ذلك فقد يشترك مع أحدهما أو الآخر في تأسيسه الذي يكون به ابتكار).  

زمان العالم

وإذا كان الزمان أسطوريا، فإن زمان المواقيت هو زمان العالم وزماننا الشخصي المحدد من خلال:

1ـ حدث مؤسس يتخذ بدءا لحقبة جديدة مثل مولد المسيح أو بوذا أو الهجرة النبوية أو بداية حكم سلالة معينة. هذه اللحظة المحورية هي نقطة الصفر التي يدور حولها زمان المواقيت. والقصة القصيرة خير وسيلة لتأسيس هذا الزمان وكلما قصرت عبرت أكثر عن زمان المواقيت. وهو ما نجده في تعامل غاليانو مع القصة القصيرة بوصفها جنسا عابرا على زمان مسرود يعادل الكون في لا نهائيته ويضاهي الحياة في دوريتها، فيكون الانسان في (مهنة الإيمان) دائرا بين تأريخ الحياة وتاريخ الكون «نعم بالفعل: مهما كان المرء متألما ومهدوما، يستطيع أن يعثر على معاصرين في أي مكان في الزمن، وعلى زملاء في أي مكان في العالم. وأينما حدث هذا وطيلة استمراره يكون المرء محظوظا بأن يشعر بأنه شيء ما في عزلة الكون: شيء أهم من ذرة غبار سخيفة أكثر من لحظة عابرة فحسب».

2ـ عند الإحالة إلى المحور الذي يحدده الحدث التأسيسي من الممكن تحريك الزمان في اتجاهين: من الماضي نحو الحاضر ومن الحاضر نحو الماضي، وحياتنا هي جزء من الأحداث التي تمر بها رؤيتنا في كلا الاتجاهين. والاحالات في قصص غاليانو ترسم للانسان بوصفه هو الفاعل السردي صورة واسما وهيئة واتجاها وحدثا يتم تصعيده دوريا في شكل مفارقات محزنة، نقرأ في (عصفة الريح): «تصفر الريح في داخلي أنا عار. سيد اللاشيء. سيد لا أحد. لست حتى سيد معتقداتي. أنا وجهي في الريح، وأنا الريح التي تهب على وجهي». وقد تكون المفارقة فكهة «في أميركا اللاتينية ألف حرية للتعبير عن حق الاحتجاج على بعض الإذاعات والصحف المحلية. أصبح من غير الضروري لرجال الشرطة أن يحظروا الكتب: ذلك ان أسعارها كافية لمنعها».

3ـ تحدد شبكة من وحدة القياس: اليوم كأساس لقياس الفترة بين شروق الشمس وغروبها والمسافة بين اللحظة المحورية وغيرها. ففي قصة (اللاعب) يغدو الانسان لاعب كرة قدم في حياة هي مباراة وهو فيها «يركض لاهثا على شفير الهاوية في جانب تنتظره سماوات المجد وفي الجانب الاخر هوة الدمار».

الزمان الثالث

بهذا يكون التأريخ هو زمان التقويم والمواقيت/ الزمان الثالث الذي هو معادل موضوعي للتاريخ الذي توقع ريكور أن المؤرخين المحترفين ربما لن ينجحوا في الإخلاص له كما أن التخلص منه غير متاح ما دام الأمر يتعلق بإعطاء معنى للأحداث والوقائع، مما يستوجب الاستمرار ضد القطيعة والتدوير ضد الخط المستقيم الذي يقتضيه تقسيم الزمان إلى فترات أو عصور.. ناهيك عن أن التاريخ ـ وليس التأريخ ـ لا يواجه الزمان وإنما يواجه نظاما فكريا يجعل معنى الحدود متلاشيا. من هنا وصف غاليانو نصوصه بأنها النظر من ثقب الباب تارة ومن ثقب المفتاح تارة اخرى، مختصرا في هذه النظرة التي هي ضيقة حسابيا لكنها متسعة رؤيويا القصة القصيرة بوصفها هي التاريخ الذي فيه يتجلى النهب والقتل. وقصده أن يشعر القارئ بمآلات التاريخ المدون بالكلمات على التأريخ المعيش باللحظات وأيهما هو الزائف وأيهما هو الصحيح، وعندها سيتخيل هذا القارئ «أن التاريخ يهرب من المتاحف ويتنفس ملء رئتيه. أن الماضي يصبح حاضرا فاميركا اللاتينية لم تعان فقط من سرقة الذهب والفضة والمطاط والنحاس والنفط، لقد صادروا ذاكرتها اختطفوا ذاكرتها ايضا كي لا تعرف من أين أتت وكي لا تستطيع أن تعرف الى اين تذهب». 

الحبكة والتاريخ

إن من الافتراضات التي تثبت إمكانية تسريد التأريخ، ما طرحه ريكور حول الحل الشعري وأن التأريخ ليس معطلا سرديا، وأن الزمان التاريخي يسهم في فك الالتباسات وإحداث مصالحة بين التاريخ والتأريخ من ناحية أن (الحبكة) هي مكون أصلي من مكونات كتابة التاريخ، والقصة هي في حد ذاتها أداة معرفية تفرض نفسها في نهاية سلسلة من المقاربات التي تصبح أدق تدريجيا على حساب اكتشاف استعصاءات تتعلق بالمعرفة التاريخية، ولقد وضح غاليانو هذا الذي تقدم عمليا حين وصف كتابه (الوجوه والاقنعة) ـ الذي هو الجزء الثاني من ثلاثية ذاكرة النار ـ بالموزاييك لانه كان يطعمه بتأرخة الاحداث زمانيا وبناء حبكاته التاريخية سرديا، مختصرا القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قائلا: «ليس هذا الكتاب مختارات أدبية بل عمل أدبي إبداعي يسرد الكاتب تاريخ أميركا وقبل كل شيء تاريخ أميركا اللاتينية، كاشفا أبعاده المتعددة ومخترقا أسراره.. يشمل القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على رأس كل نص أشير الى عام ومكان حصول الحادثة وتشير الارقام التي بين قوسين في الاسفل الى الاعمال الرئيسة التي رجع اليها المؤلف بحثا عن المعلومات والمراجع».

الممازجة بين السرد والتاريخ

وبدلا من أن يكون القاص أو الروائي صانعا لتاريخ جديد مما نجده في الممازجة بين السرد والتاريخ، فانه سيكون مؤرخا يمازج السرد بالتأريخ ملتزما بماضوية التصور، مؤمنا بفاعلية التوثيق من جهة وعمل التخييل من جهة أخرى في إنتاج تقويم زماني تختلط فيه مخيلة المؤرخ بمخيلة الروائي بطريقة مزدوجة: فهي من جانب تبني قصة بحبكة متماسكة ذات أحداث وقائعية، ومن جانب آخر توصل معاني دالة إزاء ما فيها من فواعل حية وأشياء واقعية.

وأي تمسك بقواعد عمل المؤرخ ومناهج المطابقة الزمانية ستجعل عملية كتابة القصة جزئية كسرد تاريخي فيه لا تتفق القصة مع ما وثقه التأريخ عن الماضي، ومن ثم يتساوى المتخيل السردي مع المتخيل التاريخي في كونهما مخيالا لماض آخر غير الماضي الذي حصل بالفعل لكن بلا مسافة بينهما، وهنا تبرز إشكالية توظيف الزمان سرديا فيتقاطع زمان السرد مع زمان التأريخ و«حين نريد أن نشير إلى الفرق بين القصص والتاريخ فنحن نشير بالضرورة إلى فكرة تطابق معين بين سردنا وما حصل فعلا».

وهو ما قصده غاليانو حين ألف كتابه (الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية) وسعى فيه إلى «أن يقدم سردا للنهب ويقص في الوقت نفسه آلية الاستنزاف العالمية وميكانيكيتها فيظهر الغزاة في سفنهم الشراعية وبجانبهم التكنوقراطيون في طائراتهم النفاثة».

زمن المواقيت

ويظل التأريخ كمفهوم عام للتدوين أوسع مدى وسعة من التأريخ الذي هو مفهوم خاص للزمان، أشبه بروزنامة فيها الحياة البشرية محسوبة بمقياس (زمن المواقيت) بينما التاريخ لا يتحدد بمقياس أو مقاييس لأنه هو الزمان كله. وتتعدد مقاييس غاليانو فالعنب والخمر مقياس لمتوالية لا تعرف لها بداية سوى أنها كلمات «إن العنب مصنوع من الخمر. هذا ما روته لي مارسيلا بيريث سيلبا وبعدها فكرت: اذا كان العنب مصنوعا من الخمر فربما تكون الكلمات التي تروي من نحن»، في إشارة الى دورية الزمان التي فيها البشر، رجالا ونساء، مقياس للتناسل حتى لا نهاية لحكاياتهم «هذا الرجل، أو المرأة، حامل بعدد كبير من البشر. البشر يخرجون من مسامه بهذه الأشكال الفخارية يعبر هنود بويبلو المكسيكيون عن راوي الحكايات ذلك الذي يروي الذاكرة الجمعية التي تزدهر بفضل عدد قليل من البشر».

وهو ما عكسه غاليانو بالبناء القصصي على صيغة التوالي السردي sequence narrative وموضوعها تارة الأطفال والأحلام (فن للأطفال/ فن الأطفال الخاص/ أحلام هيلينا/ رحلة إلى ارض الأحلام/ ارض الأحلام/ أحلام منسية/ الأحلام تغادر)، وتارة أخرى البيروقراطية والليل بأربعة نصوص كل واحد اقصر من الآخر، مستعملا طريقة السرد غير الطبيعي، يقول الأول «لا استطيع أن أنام هناك امرأة عالقة بين جفنيّ. سأقول لها أن تخرج إن تمكنت لكن هناك امرأة عالقة في حنجرتي» ويقول الثاني «يا امرأة جرديني من ثيابي وشكوكي عريني حرريني من الشك»، ويستعمل المجازية في النصين الثالث والرابع «أنام على حافة امرأة، على حافة هاوية» و«أتحرر من العناق أخرج إلى الشارع في السماء المتألقة، القمر فضة رائعة عمر القمر ليلتان وأنا عمري ليلة واحدة». وما زمن المواقيت سوى زمن التقاويم التي تحددها سردنة التأريخ بالتسجيل والتسلسل المستقيم والتوالي غير المتقطع في شكل حلقات أو دوائر تتكرر بشكل دوري قصير، مثل ساعات ويوم وأسبوع وشهر وفصل أو بشكل طويل مثل سنة وعقد وقرن وألفية.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا