دسمان نيوز – حوارنا التالي مع الكاتب والباحث البحريني الدكتور حسن مدن الحاصل على دكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر.. والذي عمل في العديد من المؤسسات الثقافية الخليجية، وساهم وأدار بعض الدوريات الثقافية، ولا يزال يعمل في هذا المجال.
الثقافة الاستهلاكية
- تقول في كتابك «حداثة ظهرها إلى الجدار»: «أدّت طفرة أسعار النّفط، التي ترافقت مع تحوّل مجتمعات الخليج إلى مصدّرة أساسيّة له في الأسواق العالميّة إلى شيوع أنماط سلوكيّة وثقافيّة فيها الكثير من مظاهر التّشوّه، بوصفها في الغالب الأعمّ ثقافة استهلاكيّة تتوسّل السّهولة والاسترخاء والاتكاليّة»، هل ما زال هذا التأثير السلبي مستمراً؟
- نمط الثقافة الاستهلاكية لم يعد حصراً على مجتمعات الخليج العربي. مجتمعاتنا العربية جميعها ومن دون استثناء تعاني منه، وإن بنسب متفاوتة، وطبيعي أني تحدثت في كتابي عن شيوعه في الخليج، لأن موضوع الكتاب هو قراءات في التحولات الثقافية في مجتمعات الخليج العربي، وأشرت في الكتاب إلى أنّه ليس من العدل أن نقلّل من حجم التّحوّلات الكبرى والتّوسّع المستمر في الخدمات التي شهدتها مجتمعات الخليج بعد تدفّق الثّروات، لكنّ الهوّة بين هذه النّهضة وبين التحوّل الاجتماعي – الثقافي التراكمي ما زالت شاسعة، وقد أوردت هذا النمط الاستهلاكي من الثقافة كأحد التحديات التي تواجهها الثقافة في مجتمعاتنا، فبالإضافة إليه تناولت جملة من التحديات الأخرى، ذلك أن الثّقافة في بلدان الخليج العربيّ هي أحد روافد الثقافة العربية، وهي في مرجعياتها وآفاق تطوّرها ليست منفصلة عن سياق مرجعيّات وآفاق الثّقافة العربيّة، وهي بذلك تواجه – من حيث الجوهر – كل التحديّات التي تجابهها الثقافة العربيّة في لحظتنا الراهنة، لكنّ ظروف التطوّر الخاصة التي مرّت وتمرّ بها هذه المنطقة، من العزلة الطويلة إلى الانفتاح المفاجئ على العالم الذي جاء مع عائدات النفط، أضافت تعقيدات أخرى بوجه تطوّر ونموّ هذه الثقافة، وليست «الثقافة الاستهلاكيّة» إلا أحد المظاهر التي ترتبت على تشكّل ما وصف بـ«الدولة الريعيّة» في المنطقة، حيث اعتاد الناس، أو قطاعات كبيرة منهم، على «مغريات» ما أتاحته هذه الدولة من يسر ظاهري في العيش، الناجم عن وفرة العائدات النفطيّة، لكننا اليوم إزاء تحديات جديدة، تحديات ما بعد الدولة الريعية، مع تراجع العوائد النفطيّة، ما يجعل مجتمعات الخليج أمام مرحلة جديدة، وكما كان للنمط الريعيّ الذي ساد لعقود آثاره، فإنه ستكون لما يليه آثار أيضاً.
المثقف والتحولات الجديدة
والمثقف مطالب قبل سواه بقراءة التحوّلات الجديدة واستشراف أبعادها وتداعياتها المحتملة، وبالعمل على «تموّضع» جديد للثقافة، يحررها، ما أمكن، من المظاهر الاستهلاكيّة التي طبعت بعض جوانبها، ثمّة تحدٍّ آخر يتمثّل في تراجع وتقهقر فضاءات التنوير والحداثة لمصلحة نموّ التيارات المحافظة التي تعمّق المأزق البنيويّ القائم في هذه المنطقة أساساً بين حداثة في المظاهر في المعمار وبين البنية السياسيّة والاجتماعيّة المحافظة، وحتّى لو أقمنا مقارنة بين خطاب روّاد التنوير والإصلاح عند مطالع القرن العشرين ومنتصفه، وبين بعض ما يكتبه ويفكّر فيه الكثير من مثقّفي وأكاديميّي اليوم، لأدركنا فداحة ما نحن فيه، فبدل الانشغال على أسئلة الإصلاح الحقيقيّة التي على هذه المجتمعات أن تجابهها نجد انشغالات بمسائل أبعد ما تكون عن روح العصر ومن التحديات التي أتيت على ذكرها في الكتاب: التباس العلاقة بين المؤسّسة الثقافيّة الرسمية والفضاء الثقافيّ، ففي علاقة الحكومات بالثقافة يتعيّن التّفريق بين أمرين: الأوّل هو أن تنطلق هذه الحكومات من النظر إلى الثّقافة بوصفها صناعة ثقيلة تحتاج إلى بنية أساسيّة قويّة، يجب أن يتجلى في الإنفاق على الثقافة بوصفها استثماراً في المستقبل، تماماً كما نفعل مع التعليم مثلاً، فبمقدار ما أنّ الدّولة ملزمة بتأمين التّعليم لأبنائها بتشييد المدارس والكليّات والمعاهد والجامعات والمختبرات، فإنّها مطالبة بأن تؤمّن لهؤلاء الأبناء الخدمات الثقافيّة عبر تشييد البنية التحتيّة للعمل الثّقافيّ من متاحف ومراكز ثقافيّة وصالات للعروض المسرحيّة وقاعات للعروض التشكيليّة ومراسم وقاعات للتّدريب المسرحيّ والموسيقي وسواها، فمثل هذه المهامّ منوطة بالحكومات وحدها، لأنّه من صميم واجباتها. أمّا الأمر الآخر، فهو ضرورة أن تضمن الأجهزة الحكوميّة المعنيّة بالشأن الثقافيّ توفير مناخ ملائم من الحريّات يتيح الحركة المستقلة للمبادرات الثقافيّة الأهليّة، لأنّها تغطّي فضاءات ليس في طاقة الدولة بلوغها، وليس مطلوباً منها أن تفعل ذلك، وهذا يتطلّب رؤية جديدة لدى الجهات الرّسميّة تجاه مسألة الإبداع والمبدعين، فالإبداع لا ينمو ويزدهر إلا في مناخ الحريّة.
مخاضات الحداثة
- «الحداثة المنشودة هي تلك التي تضرب بجذورها عميقاً في البنيان الاجتماعيّ، الثّقافيّ، السّياسيّ، بديلاً للبنى التّقليديّة المحافظة التي ما زالت تعيد إنتاج نفسها، ثقافيّاً واجتماعياً، وتكفّ عن الاتّكاء على الحائط»، إلى أي حد تحققت الحداثة في دول الخليج؟
- في مدخل«حداثة ظهرها إلى الجدار» والمعنون بـ«مخاضات الحداثة» أشرت إلى ما ذهب إليه مفكرون ومثقفون عرب كثر، في المشرق والمغرب، من تفريق بين الحداثة والتحديث، وشخصياً أتبنى هذا الرأي وأراه مهماً لفهم ما مرت به مجتمعاتنا العربية كافة، وليست مجتمعات الخليج العربي وحدها، من تحولات في اتجاه التحديث، الذي يشمل إنجاز بنى تحتية حديثة، بل ومتطورة للغاية، كما هي فعلاً في بلدان الخليج أو بعضها على الأقل، ومن تأمين الخدمات الاجتماعية الضروية من تعليم وصحة وسواها، ولا شك في أن وفرة عوائد النفط ساعدت في إنجاز ذلك، وكل ما أنجز مهم، ولا يجب التقليل من أهميته وانعكاساته الايجابية على عيش الناس كما ذكرنا، لكن من دون أن يدفعنا ذلك إلى القول إننا بلغنا الحداثة أو أنجزناها، فهذا التحديث مهم لكونه يضع مقدّمات ضرورية للحداثة المنشودة، التي ما زال دون بلوغها طريق طويل يتطلب تحديث البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية، ولذلك شروطه ومستلزماته التي يجب الوفاء بها.
التحولات المهمة
- على الرغم من سهولة العيش المادي في دول الخليج وتيسر التعليم، فإن عدداً لا بأس به من الشباب الخليجي انخرط في صفوف جماعات متشددة كالقاعدة وغيرها، هل من تفسير لذلك؟
- لنشوء ظاهرة التطرف والاتجاهات الإرهابية أكثر من سبب، بينها بالتأكيد العامل الاقتصادي الذي يحفز قطاعات من الشباب العرب في البيئات الفقيرة للالتحاق بها، ولكن هناك عوامل تعبئة فكرية وسياسية اضطلعت بها دول كبرى وإقليمية بما يخدم مصالحها، فكيف لنا أن ننسى أن تنظيم القاعدة إنما نشأ، أول مرة، في أفغانستان التي جرى إرسال الشبان من مختلف البلدان العربية، بما فيها بلدان الخليج، إليها للانخراط في ميليشيات ممولة لمواجهة الوجود السوفيتي يومها، وعن «القاعدة» تفرعت تنظيمات عديدة بينها «داعش» نفسها، في ظروف ما بعد عام 2011، وترافق ذلك ما مع أطلق عليه «الصحوة»، التي هي في الجوهر ردة عن منجزات كثيرة بلغتها مجتمعاتنا، ونحن محظوظون أننا بلغنا المرحلة الراهنة التي يجري فيها إعادة النظر في هذه السياسات، من خلال التحولات المهمة جداً الجارية في المملكة العربية السعودية والتي ستكون لها، بالتأكيد، انعكاسات على بقية بلدان المنطقة.
الثورة الثقافية
- تقول «لأنّ هذا القديم لن يتنحّى من مواقعه من تلقاء نفسه، وأنّ ثمّة حاجة لجهود ليست قليلة لإزاحته – بدل الاحتماء بالجدار»، هل هي الحاجة إلى ثورة ثقافية؟
- «الثورة الثقافية» مطلوبة بالتأكيد، ولكنها جزء من منظومة كاملة للتغيير، اجتماعية واقتصادية وسياسية، فلا يمكن فصل الثقافة عن كامل هذه المنظومة من الشروط التي تتطلب إعادة النظر في أنظمة التعليم والمقررات الدراسية لتواكب العصر، بتحرير هذه المقررات من حشو الخزعبلات المعشعشة فيها منذ عقود، وتمكين مؤسسات المجتمع المدني الحديثة من أن تكون شريكاً يعتدّ به في البناء المجتمعي الذي نتطلع إليه.
- إذا أردنا فهم العقلية الخليجية مقارنة بما هو موجود في المنظومة العربية؟
- أكرر القول بعدم جواز هذا الحديث المبالغ فيه حول «الخصوصية» الخليجية. نحن جزء لا يتجزأ من الوطن العربي ومن ثقافته وعاداته، وآن الأوان للكف عن النفخ في موضوع هذه «الخصوصية» سواء من أبناء المنطقة أنفسهم أو من أشقائهم العرب. الخليج شهد تحوّلات مهمة خلال العقود الماضية، فيها إيجابيات وفيها سلبيات، يجب النظر إليها باهتمام ودراستها وتحليلها، ومغادرة الصورة النمطية المأخوذة عن هذه المجتمعات، ليس لأننا ننفي بعض مظاهر التطور الخاصة بالمنطقة، ولكن هذه الخصوصية تنطبق على كامل المجتمعات العربية من دون استثناء، فالمؤكد أن لبلدان المغرب العربي بعض الخصائص في التطور مختلفة عن تلك الموجودة في بلدان المشرق العربي، التي علينا فهمها، لكن لا لكي نبالغ في حجمها، ونغفل المشتركات وأوجه التشابه الكثيرة وفي مختلف المجالات التي تكاد تحتكم لنفس القوانين والآليات.
المدينة والريف
- كيف لنا أن نتحدث عن الحداثة ونحن أخفقنا في تحقيق نهضة عربية؟
- لفهم انتكاسة الحداثة العربيّة علينا النّظر في طبيعة التّحوّلات التي جرت وتجري في البلدان العربيّة، بما فيها التحولات الديمغرافية، حيث يتكدّس المهاجرون من الرّيف الذين يظلّون يشعرون بالغربة في المدينة وسط ظروف سكنيّة ومعيشيّة صعبة، وستشكّل الأجيال الجديدة من أبناء أحزمة الفقر وقوداً للحركات الاحتجاجيّة الرّافضة، التي تفتقد إلى برامج التّحديث الحقيقيّ، كونها نتاج مجتمعات غير مدينيّة في الأساس، وهي لن تنخرط في بناء مؤسّسات المجتمع المدنيّ الحديث، فهذه الأخيرة هي – في الأصل والجوهر – نتاج المدينة، وهي بمنزلة الأطر أو الهياكل التي من خلالها تنظّم النّخب السّياسيّة والثّقافيّة وسواها أنشطتها، لكنها ظلّت في حيّزها النّخبويّ المحدود، رغم ما يتمتّع به القائمون عليها من وعي وخبرة، وإذا كانت هذه النّخب هي من أطلق شرارة التّغيير في البلدان العربيّة المعنيّة، فإنّها وجدت نفسها أقليّة وسط الطّوفان الشّعبيّ الغاضب، الآتي من جذور غير مدينيّة، والذي وجد ملاذه في الأفكار والتّيارات المحافظة والمتطرّفة، إزاء هشاشة وضعف البدائل الحديثة، أو حتّى ضعفها. هذه بعض المداخل الضروريّة التي تُعين في التعرّف إلى أسباب الكثير من أوجه الخلل في مجتمعاتنا الحائرة بين ما ورثتهُ من جينات في السلوك، وما هي مُجبرة على التعامل معه بفعل جبروت الحداثة، فلا هي قادرة على التخلّص من تلك الجينات والقطع مع السلوك الذي تأخذه إليها، ولا هي قادرة على أن تزجّ بنفسها في أتون الحداثة كليّة مع ما يترتّب على ذلك من أكلاف – لا بدّ من دفعها – إن أرادت هذه المجتمعات تجاوز حالة القلق والتّذبذب بين قطبين، أحدهما يجرّ بالقوّة إلى الخلف، والثّاني لا يظهر ما هو لازم من حسم لجرّها نحو الأمام.
الجيل الحالم
- هل تعتبر نفسك من جيل الهزيمة (هزيمة 67)؟
- نعم أنا انتمي للجيل الذي تفتح وعيه على الدنيا مع نشوء هذه الهزيمة، ورغم ذلك، فإن جيلنا كان حالماً بالمعنى الدقيق للكلمة، فالسبعينيّات كانت بداية العد العكسي للنهوض الوطني والقومي، لنكتشف لاحقاً أننا، كجيل، كنا نعيش ما يشبه صحوة الموت من دون أن ندرك، حيث أوهمنا أنفسنا بأن الهزيمة التي حدثت في 1967 مؤقتة، وأنها قد تشكِّل قاعدة أو منطلقاً لإعادة الثقة بالنّفس وإحراز النّصر. هذا على الصعيد العربيّ العام. أمَّا على الصعيد الخليجي، فإن السبعيّنيات هي مرحلة الاستقلال وتشكُّل الدول الحديثة وبناء مؤسساتها، ما وضع على عاتق جيلنا مهام العمل في سبيل استكمال هذه المهام، ولم تكن تلك مهمة سهلة على كل حال.
الفلسفة والحياة
- ما الذي يمكن أن تضيفه الفلسفة إلى حياة المواطن العربي؟
- إهمال تدريس الفلسفة، أو ضعف هذا التدريس في مدارسنا وجامعاتنا أدى إلى ما وصفه أحد الأساتذة من المغرب بالفساد المعرفي، وما زال متعيناً إعادة الاعتبار للفلسفة كمادة ومنهج سواء لتطوير فكر نقدي وعقلاني، أو لتكوين إنسان جديد محصّن ضد التطرف والتزمت، ورغم أن بعض البلدان العربية، خصوصاً في المغرب العربي، كتونس والمغرب مثلاً، اللذين عرفا بعد الاستقلال اهتماماً بتدريس الفلسفة في الثانويات، لكن سرعان ما قلّ الاهتمام بذلك، ما أضعف الدور النقدي والمعرفي الذي كانت تقوم به في الستينيات، والذي مثّل حصانة للمجتمع بوجه التطرف، وخلق تقاليد طيبة في الوعي الفلسفي في الأوساط الأكاديمية والثقافية، نجد آثارها واضحة في المساهمة النقدية للمغرب في الجدل الثقافي والفكري في العالم العربي جدير بأمة قدمت في تاريخها للعالم أسماء بوزن ابن باجة وابن طفيل وابن رشد وابن عربي، ونحو دائرة أوسع من المعرفة يمكن أن نشير إلى ابن خلدون، أن تُواصل التقاليد المضيئة التي أرسى قواعدها هؤلاء الكبار، وأن تكفّ عن الخشية أو التردد في إثارة أسئلة الفلسفة في مدارسها وجامعاتها، وتعويد أذهان الناشئة على التفاعل مع هذه الأسئلة، لكي تتحول منظوماتنا التعليمية إلى منظومات لتحرير العقل، لا إلى قهره. https://www.alqabas.com/article/5919228 :إقرأ المزيد