فاروق بستكي… المهندس «ريختر»

دسمان نيوز – تغطية الحاضر ومطاردة الفكرة المستقبلية واستشراف المستجدّ شغل الإعلاميين الشاغل، لكن العودة إلى الماضي تصبح أكثر من ضرورية، خصوصاً إذا كان النجاح عنواناً عاماً نستخلصه من تلك العودة.

العنوان هنا: فاروق بستكي، والمنطقة: الكويت، والمدينة: الهيئة العامة للاستثمار، والقطعة: من الأميركيتين إلى أستراليا وما بينهما، والشوارع: أقنية التوظيف المالي والاستثماري عبر العالم، أما صندوق البريد: فهو صندوق سيادي… فبعد صدور مرسوم أميري بتعيين مجلس إدارة جديد لـ«هيئة الاستثمار» بدماء جديدة، خرج العضو المنتدب بستكي من «الهيئة» بعد أكثر من 4 سنوات حافلة بالنجاحات، مدعومة بالأرقام التي لا تقبل في إضاءتها القسمة على اثنين.

وفي تتبعه لمسارات التوظيف المالي والاستثمار، يمكن وصف الرجل بمهندس «ريختر»، لا لتوقعاته الهزات والزلازل المالية والابتعاد عنها فحسب، بل لقدرته على استشعار ارتداداتها أيضاً خوفاً من الركون إلى بيانات زائفة.

أفضل المسارات

يعلم بستكي جيداً أن طريق ذهابه من منزله إلى عمله في «هيئة الاستثمار» كعضو منتدب، وتحديداً في 18 أبريل 2017 لم يكن نفسه الذي عاد منه يوم الخميس الماضي.

فعندما تسلّم الرجل منصبه، بدا الطريق أمامه مزدحماً بالإشارات والتقاطعات التي تشير جميعها إلى المال بمفهومه الضخم، دون أن يغفل أثناء رحلته التي تستغرق عادة نحو 25 دقيقة البحث عن أفضل المسارات لنجاح مهمته في إدارة الثروة السيادية للكويت، وأفضل المعالجات التي يمكن أن يقدمها في تمويل المصروفات العامة المتصاعدة.

أما طريق عودته لمنزله نهاية الأسبوع الماضي فكان مختلفاً كلياً، ففيما بدا خالياً من إشارات الاستثمار السيادي الحمراء والخضراء والصفراء التي اعتادها إلا أنه يظل مليئاً بالذكريات والمحطات بين إقلاع رحلته وهبوطها.

فرقمياً، كان حجم صندوق الأجيال المقبلة عندما تولى بستكي منصب العضو المنتدب يقارب 450 مليار دولار، وبعد 4 سنوات قفزت قيمته لنحو 700 مليار، ليسجل بذلك نمواً في الثروة السيادية بأكثر من 55.5 في المئة.

شيفرة السر

عندما تحدث الجراح والكاتب الأميركي ماكسويل مالتز عن الناجح والفاشل، اعتبر أن الفرق بينهما ليس في القدرات أو الأفكار الأفضل، «بل في الشجاعة التي يتحلى بها الشخص في الرهان على أفكاره، وفي فعله وفي تحمل المخاطر المحسوبة»… وهذا هو تحديداً شيفرة سر تميز بستكي في موقعه، والذي سعى لأن يشيعه يومياً لدى فريق العمل المحيط به كي تصبح الشجاعة في الرهان على تنفيذ الأفكار الاستثمارية مدروسة المخاطر مصدر اتخاذ القرار.

فلسفة بستكي في مسيرة عمله بـ«هيئة الاستثمار» والتي استمرت لنحو 32 عاماً بسيطة، هي أن النجاح «رحلة وليس محطة وصول»، ولذلك كان يبني قراراته الاستثمارية مع كوادر «الهيئة» بمختلف مستوياتها بناءً على رؤية مدفوعة بسياسات طويلة الأجل لم تخل من التنبؤات، ورصد زلازل الأسواق المستقبلية، مستفيداً من حساباته التي أثبتت محاسبياً دقتها العالية في تحليل الأرقام الصعبة جمعاً وطرحاً وقسمة أحياناً.

ولعل ما يثير التساؤل هنا سر نجاح الخلوق نظيف اليد الباحث عن فرص النمو دوماً وغيرها من الصفات التي يحلو لمن عمل مع بستكي إطلاقها عليه؟

عمل جماعي

مبدئياً، كان بستكي يحمل دائماً شعار «لست «سوبرمان» لأحقق النجاح وحدي بل كل قرار صائب يقود لنمو الثروة السيادية هو في الأصل عمل جماعي».

وبعيداً عن تسيّد شعار أن نجاح «هيئة الاستثمار» في السنوات الأربع الماضية جاء بفضل العمل الجماعي والثروة البشرية التي تزخر بها، يختزل بستكي الكثير من هذه القناعة في مساره الإداري والتنفيذي والاستثماري، فمن يعرفه عن قرب يضيف إلى هذه القناعة جنوحه إلى الفرادة في موضوع أساسي يتعلق بالشجاعة في اتخاذ القرار الاستثماري.

فلم يُعرف عن بستكي بعد المشورة من اللجنة التنفيذية ومسؤولي هيئة الاستثمار أنه من أصحاب الأيدي المرتعشة في توزيع الأصول السيادية، سواء قطاعياً أو جغرافياً أو سياسياً.

وبلغة الأرقام، وبشهادة وزير المالية خليفة حمادة، كان أداء «صندوق الأجيال القادمة» الأفضل في تاريخه بعد أن حقق نمواً بلغ 33 في المئة في السنة المالية المنتهية في 31 مارس الماضي، ليتفوق على نظرائه من الصناديق السيادية العالمية التي تفصح عن أدائها.

وفاق النمو في صندوق احتياطي الأجيال في السنوات الخمس الماضية إجمالي الإيرادات النفطية للفترة ذاتها، وحقق نتائج تفوق الأهداف الموضوعة في إستراتيجية الصندوق.

وهج الأداء

وما يزيد من وهج أداء «هيئة الاستثمار» خلال السنوات الأربع الماضية، ما مرت به الأوضاع الاقتصادية عالمياً خلال هذه الفترة من تغيرات متواصلة وعميقة، ظهرت معها التناقضات بين الدول الكبرى والصغرى غير المسبوقة، اقتصادياً ومالياً.

ففي ظل تعقيدات مزدوجة نجمت عن أزمة «كورونا» وانخفاض أسعار النفط إلى حدود وصلت في أبريل 2020 لمستويات تاريخية بلغ معها البرميل نحو 16 دولاراً، برزت كتلة تحديات مالية واقتصادية واجتماعية بعنوان «مخاطر نفاد السيولة».

وعملياً، يعد بستكي من أوائل المتنبئين بزلزال العجز المالي وفي مقدّمة الداعين لشد حزام المصروفات العامة لتفادي تنامي أزمة نفاد السيولة من الاحتياطي العام، حتى أنه يصح تسميته بـ«ريختر أزمة الكاش»، التي تعاني منها الكويت وزادت تعقيداً بالفترة الأخيرة.

فمع استمرار تراجع إيرادات الكويت، وتحديداً منذ العام 2015، بادر بستكي منذ نحو 3 سنوات لتسليط الضوء على أزمة مالية تلوح في الأفق وليست عابرة في سماء الكويت، معززاً مخاوفه بشرح توضيحي مفصل إلى وزير المالية الأسبق الدكتور نايف الحجرف تمهيداً لنقله إلى مجلس الوزراء. وقتها تسلح بستكي بالأرقام المخيفة للتوقعات المالية دون أن ينسى وضع أكثر من سيناريو ضغط يمكن التعرض لها، وخطط الإصلاح الضرورية لمواجهتها، وجميعها تضمن ترشيق المصاريف وزيادة الإيرادات العامة.

تسارع العجز

ويمكن القول إن جميع توقعات الرجل صدقت، ومن صور ذلك الحديث الحكومي المفتوح حكومياً ونيابياً وشعبياً منذ نحو سنة عن قرب نضوب السيولة واحتمال عجز الرواتب، لكن ما لم يتحقق مطالباته المتكررة والمستحقة لدى جميع الجهات واللجان ذات الصلة بضرورة الإسراع نحو تنفيذ برنامج للإصلاح الاقتصادي والمالي.

بالطبع، مهمة إدارة السيولة العامة لم تكن سهلة على بستكي ومسؤولي إدارة الاحتياطي العام، وهم يقرؤون جيداً المشهد النفطي وتسارع وتيرة العجز الذي بلغ حسب بيانات الحساب الختامي عن السنة المالية الماضية 10.8 مليار دينار تعادل نحو 36 مليار دولار.

وفي ظل تحديات «كورونا» وتباطؤ التعافي الاقتصادي عالمياً ومحلياً لا يعد سراً أن رؤية بستكي للعجز المالي تحققت، وتحققت معها مخاوفه المعلنة في الغرف المغلقة والمفتوحة من كلفة تأخر العمل بتوصياته وفريقه، والتي تقاطعت مع رؤى جميع المؤسسات المعنية بالإصلاح.

ولعل ما زاد تحدي إدارة السيولة أمام العضو المنتدب طيلة السنوات الأربع الماضية ضعف قدرة أسعار النفط على سد فجوة العجز التي تنامت سنة تلو الأخرى وسط توقعات وزير المالية خليفة حمادة أن يصل العجز التراكمي في السنوات الخمس من 2020/2021 إلى 2024/2025 لنحو 55.4 مليار دينار (183 مليار دولار)، وأن يصل حجم المصروفات المتوقعة الإجمالية لهذه الفترة إلى 114.1 مليار دينار منها 81 ملياراً للرواتب والدعوم.

معالجات سحرية

وربما لا يجافي الموضوعية القول إن بستكي نجح مع مسؤولي «هيئة الاستثمار» في تفادي تحقق عجز الرواتب وتغطية النفقات العامة الملحة حتى الآن، رغم كل الضغوطات المالية المتأتية على الاحتياطي العام من تراجع أسعار النفط وتضخم المصروفات العامة.

ومحاسبياً، استخدم بستكي معالجات مالية يمكن وصفها بالسحرية ضمنت توفير سيولة سريعة تقدر بنحو 5 مليارات دينار من خلال نقل أصول من الاحتياطي العام لصندوق الأجيال القادمة بينها مؤسسة البترول والأسهم المدرجة، ما هدّأ كثيراً من ضغوطات سحوبات الاحتياطي العام التي استنزفت سيولته.

ربما يكون المهندس الصناعي خريج جامعة ميامي الأميركية غادر «هيئة الاستثمار»، لكنه ترك خلفه سجلاً طويلاً من الإنجازات المحققة رقمياً، ونموذج عمل مضيئاً بالإشارات التي تظهر بوضوح قدرته على استغلال الأسواق وتقلباتها، وقدرات الشباب الكويتي في صناعة الفارق الاستثماري عالمياً، وحسن إدارة السيولة محلياً، رغم كل المطبات المؤلمة مالياً واقتصادياً، والتي مر بها أثناء رحلته الملهمة.

«أبانا» كرّمت بستكي على ريادته

كرّمت منظمة أبانا الأميركية فاروق بستكي، خلال شغله منصب العضو المنتدب السابق للهيئة العامة للاستثمار، بمنحه جائزة «أبانا» للعام 2019 للإنجــاز بنسختهـا الـ35.

وتُمنح جائزة «أبانا» للشخص الذي يجسد الريادة المتميزة في الأعمال المصرفية والمالية.

وتم تكريم بستكي في حفل أقيم في مدينة نيويورك، بحضور أكثر من 100 مدير تنفيذي و500 شخص، حيث جرى استعراض الدور الريادي لـ«هيئة الاستثمار» في ظل إدارة بستكي.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا