دسمان نيوز – بعد اجتياح فيروس كورونا العالم من مدينة ووهان الصينية في نهاية عام 2019، وتحديداً في ديسمبر الماضي، أصبح البشر في حالة شلل تام من خلال تعطيل الوحدات والنشاطات الاقتصادية كافة، ما أدى بعد ذلك إلى حالة ركود «Recession» شامل. وقدّر صندوق النقد الدولي خسائر أزمة كورونا خلال تلك الفترة بـ9 تريليونات دولار، الأمر الذي دفع حكومات العالم لاتخاذ إجراءات واحتياطات اقتصادية وصحية، لمنع تفاقم الأزمة. واستناداً إلى نظرية الدورة الاقتصادية التي تفسر نمو الناتج الاقتصادي «GDP» عبر الزمن، من خلال المرور بحالات الركود ثم الانتعاش فالرواج، وأخيراً الانكماش ثم الركود… وهكذا، إلا أن دراسة علمية اقتصادية لجامعة هارفرد – نُشرت سابقاً – أكدت أن حالة التعافي أو الانتعاش الاقتصادي العالمي من أزمة كورونا تمر بأحد 3 سيناريوهات، هي: السيناريو (V) ويعتمد على تعافي سريع بحدود 6 أشهر، والسيناريو (U) وتمتد مدة التعافي فيه لنحو 9 أشهر، أما أكثر السيناريوهات تشاؤماً فهو السيناريو (L)؛ حيث التعافي في غضون أكثر من عام. والجدير بالذكر أن خطورة الأزمة الاقتصادية لجائحة كورونا تجلت بكونها صدمة عطّلت كل من العرض والطلب الكلي، بخلاف أزمة الكساد الكبير عام 1929 الذي انخفض فيه الطلب الكلي بسبب انخفاض الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري، فحدثت فجوة لمصلحة العرض لم يتحقق منها توازن في زيادة الطلب، فسقط فيها قانون ساي «Sayꞌs Law»، والذي يفترض أن العرض يخلق الطلب. وإضافة إلى صدمة العرض والطلب، فإن الأزمة الاقتصادية لجائحة كورونا عطّلت جميع القطاعات الاقتصادية، وهذا لم يحصل في الأزمة المالية العالمية عام 2008، التي كان أثرها غير مباشر على الاقتصاد العالمي، رغم فداحة الأزمة، باعتبار أن المتضرر الرئيسي هو القطاع المالي والمصرفي. وفيما يلي أبرز القراءات الاقتصادية التحليلية لمستقبل العالم، لما بعد جائحة كورونا، مع بيان لأهم الدروس المستفادة على المستوى الوطني في الكويت، بهدف تفادي أي ضرر مستقبلي لأي مشكلة اقتصادية تسبب انكماشاً أو ركوداً أو حتى كساد طويل لا قدر الله، إضافة إلى تأملات من منظور الاقتصاد الإسلامي لأثر الجائحة:
الصحة أم الاقتصاد؟
صدر، أخيراً، كتاب جديد تحت عنوان «Economics in the Age of COVID-19»، يتناول أبرز المحطات الاقتصادية في زمن كورونا، ومن أبرز ما أشار إليه الكتاب مفهوم الصحة قبل الثروة «Health before Wealth»، وهي معادلة ليست سهلة ذات اختيارات تفضيلية بين الصحة أو الاقتصاد. فالصحة أهم من الاقتصاد والثروة، كونها مرتبطة بحياة الإنسان، إلا أن هذا الاختيار كان ومازال يتعلق بإغلاق المنشآت التجارية والصناعية، ما يتسبب بخسائر اقتصادية كبيرة جداً. وهذا بالفعل ما أقدمت عليه الكويت وبعض الدول العربية والخليجية، حيث فرضت حظراً كلياً وجزئي للحيلولة دون تفشي الوباء بين الناس، إلا أنه كلما زادت مدة الإغلاق التام؛ زاد تأثر القطاعات الاقتصادية لتلك الدول. وعلى فرضية تقديم الاقتصاد على الصحة كما حصل مع الدول الأوروبية على سبيل المثال، فإن التأثير السلبي سيطال الصحة العامة؛ فيزداد معها معدل الوفيات، وإشغال المستشفيات، وقد ينهار النظام الصحي فجأة. إذن، هي اختيارات تفضيلية بين الصحة أو الاقتصاد كأولوية، وسواءً قُدّمت الصحة أو الاقتصاد فإن الضرر سيطال البلد من جراء ترك الآخر، وستزداد كلفة الآخر كلما تقدم الزمن. وبالنظر إلى مبادئ الاقتصاد الإسلامي، فإن تقديم الاقتصاد كأولوية يعادلها (حفظ المال) كأحد الضروريات الخمس من مقاصد الشريعة الإسلامية، وتقديم الصحة كأولوية يعادلها (حفظ النفس) من تلك الضروريات، ولاشك أن حفظ النفس مُقدّم على حفظ المال، لكن هذا الحكم يحتاج إلى بحث علمي مفصّل، يوازن بين القواعد الفقهية والمقاصد الشرعية والاقتصاد الوضعي، وفق جائحة كورونا كحالة تطبيقية.
حلول عجز الموازنة
ظهرت بوضوح مشكلة عجز الموازنة العامة نتيجة تراجع الإيرادات العامة بسبب هبوط أسعار البترول قبل أكثر من عامين، ومع كل أسف وطيلة تلك الفترة؛ لم تتمكن دول الخليج من فك رقبة ميزانيتها العامة من يد أسعار النفط، فجميع بدائل تنويع مصادر الدخل لم تتعدّ 25 إلى 30 في المئة على أحسن الأحوال، إضافة إلى أنها بدائل ضريبية وتقشفية أثّرت سلباً على نمو وتحفيز الاقتصاد الكلي والأسواق المختلفة. ومع ظهور أزمة كورونا والركود الاقتصادي، أضحت الحاجة ماسة في دول الخليج كافة لإنعاش اقتصادياتها عبر حزم تحفيزية، وهذا لن يكون إلا عبر زيادة الإنفاق العام رغم جرح نزيف أسعار النفط !! ومن هذا المنطلق تظهر العديد من الحلول على الطاولة، وما يعنينا في المشهد السياسي والاقتصادي الكويتي جملة من الاقتراحات، منها على سبيل المثال لا الحصر: تعجيل إنجاز بعض المشاريع التنموية ذات الطابع الاقتصادي والتي تحقق عوائد مالية للدولة كمركز إقليمي في المنطقة (ميناء مبارك الكبير، المنطقة الاقتصادية الشمالية، مدينة الشحن الجوي في المطار، مشروع الممر الاقليمي للاتصالات، تأجير أملاك الدولة،.. وغيرها)، أما الاقتراح الثاني؛ فيتمثل بإقرار قانون الصكوك الحكومية والذي سيخفف من عبء المصروفات العامة من الدولة لمصلحة القطاع الخاص، حيث تطرح الدولة المشاريع التنموية الاستثمارية على هيئة صكوك إسلامية للقطاع الخاص.
الوقف والتنمية
يعدّ الوقف من الأدوات المالية الإسلامية لتحقيق التنمية المستدامة، وأعني بذلك أن تمارس المؤسسات الوقفية دورها الفاعل في تمويل المشاريع التنموية، جنباً إلى جنب مع الجهاز الحكومي، في ظل انخفاض الموارد والإيرادات العامة للدول النفطية. وإذا نظرنا إلى حداثة مصطلح التنمية المستدامة؛ فإنه يشير إلى تعزيز القدرات والموارد البشرية والاقتصادية والاجتماعية للأجيال القادمة، وهذا يتنافى مع وجود الموارد النفطية الناضبة، فهي موارد غير مستدامة. وعليه، فإن الوقف ومن منطلقات شرعية وتاريخية راسخة، يثبت أنه ذو كفاءة اقتصادية في تمكين التنمية المستدامة، فبئر رومة الذي اشتراه سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه هو أحد نماذج الوقف لتكريس استدامة الموارد المائية في الدولة الإسلامية بالعهد النبوي، وهناك أوقاف على مر التاريخ تخدم القطاع الطبي من مستشفيات، والقطاع التعليمي من جامعات ومدارس، والقطاع الترفيهي كالحدائق والعناية بالزهور ونحو ذلك، إضافة إلى تعزيز الأمن الغذائي والمائي والصحي وغيرها الكثير من جوانب التنمية المستدامة. وأعتقد أن المسؤولية تقع على الأمانة العامة للأوقاف بالتنسيق مع المجلس الأعلى للتخطيط في رسم أدوار كبرى للوقف في الكويت على صعيد التنمية المستدامة، منها إنشاء بنوك وقفية لاستثمار أموال الوقف ليكون ذلك بالتوازي مع خطط الدولة التنموية، ولتخفيف العبء على كاهل الميزانية العامة، لا سيما في بند المصروفات العامة تجاه مشاريع التنمية.
الأمن الغذائي والدوائي
من خلال ما يمر على العالم من متغيرات مناخية وسياسية مقلقة، أصبحت الحاجة ماسة لتعزيز والمحافظة على الأمن الغذائي للبلاد، الذي يوصف بأنه قدرة الدولة على تحقيق الاعتماد الذاتي في توفير الموارد الغذائية الكافية، بما يعادل أو يفوق الطلب المحلي. وإذا رجعنا للماضي وما كتبه الاقتصاديون في الموارد الغذائية والسكان، وتحديداً عندما أطلق عالم الاقتصادي الكلاسيكي، توماس مالتوس، نظرية السكان؛ والتي تؤمن بشح الموارد الطبيعية والغذائية اللازمة للبشر، وترى أن الموارد الغذائية تزداد بمتوالية حسابية، مقابل زيادة عدد سكان الأرض بمتوالية هندسية، الأمر الذي يجعل الموارد الطبيعية والغذائية – حسب رأي مالتوس – غير كافية مع مرور الزمن، وقد لاقت النظرية «المالتوسية» قبولاً في تفسير ظاهرة الفقر حتى يومنا هذا. ومع ذلك، فالنظرية تخالف أصول الفكر الاقتصادي الإسلامي، فالإسلام كفل للبشرية رزقها وكفايته إلى يوم القيامة، ودليل ذلك قول الله تعالى في سورة (ص): «إن هذا لرزقنا ماله من نفاد»، وقوله سبحانه وتعالى في سورة (هود): «وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها»، وغيرها من النصوص الشرعية التي تنقض النظرية «المالتوسية». من جهة ثانية، ألف كل من فرانسيس مورلابيه وجوزيف كولينز كتاباً ينقض نظرية مالتوس بعنوان «صناعة الجوع: خرافة الندرة»، يهدمان فيه الأسس والمنطلقات التي جاءت بها هذه النظرية، بلغة أرقام وإحصائيات دقيقة. وبالعودة إلى الأمن الغذائي، فإنه يقوم على ثلاثة معايير رئيسية: الأول؛ وفرة السلع الغذائية في الأسواق، والثاني؛ وجود السلع الغذائية بشكل مستمر، والثالث؛ الرخص النسبي للسلع الغذائية بما يجعلها في متناول الجميع. وبالإشارة إلى تلك المعايير فإنها تنطبق على واقعنا في الكويت بشكل مريح، ولكن يبقى السؤال: هل سيستمر مستوى الأمن الغذائي دون انخفاض؟ ماذا عن الحلول والمعالجات الحكومية لتحسين مستوى الأمن الغذائي؟ لماذا لا تقوم شركة المطاحن الكويتية – وهي شركة حكومية – بامتلاك حقول القمح ومزارع الدقيق والزيوت النباتية في العالم بدلاً من الاعتماد على المورّدين الخارجيين؟ تساؤلات تقتضي تفكيراً إستراتيجياً من الجهاز الحكومي خارج الصندوق..!!
أما عن الأمن الدوائي، فلا يقل أهمية عن الأمن الغذائي، استناداً إلى الأمراض والجوائح التي اجتاحت العالم لأكثر من عقد مضى، ابتداءً من إنفلونزا الطيور مرورا بإنفلونزا الخنازير، وأخيراً فيروس كورونا، وهذا يتطلب وعياً حكومياً من خلال تنبؤ واستعدادٍ لأي موجات وبائية أو أمراض مستجدة، ولا يقتصر الأمر عند حد إنشاء وتطوير مصانع للكمامات والمعقمات الطبية، بل يتطلب توطين شركات ومصانع عالمية للأدوية في دولة الكويت، ناهيك عن إنشاء محفظة و صندوق لتمويل المشاريع الكبرى في القطاعات الصحية، ومنها الأدوية والمستلزمات الطبية.
خلاصة الأمر، أن العقود المقبلة حبلى بالتوترات الجيوسياسية والتي تنعكس سلباً على الأمن الغذائي والدوائي كتحديات أساسية، ومن هنا يجب الاستعداد لهذه المرحلة مبكراً.
التدرج في تطبيق الخصخصة
لا يمكن الحديث مطلقاً عن تنمية وازدهار أي دولة دون الحديث عن دور القطاع الخاص فيها، بل إن القطاع الخاص هو الذي يجب عليه قيادة الاقتصاد والتنمية تحت إشراف ورقابة الدولة، أما ما عداه من تخويف الناس من دور القطاع الخاص فهذا لايستقيم. من هنا يتبين أن النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص يتمحور حول أساليب عدة، منها الخصخصة، وهي تحويل وحدات الإنتاج من القطاع العام أو الدولة إلى القطاع الخاص، بهدف التخلص من البيروقراطية الطاردة للإبداع والإنتاج، وكذلك بهدف تخفيف عبء المصروفات العامة على الدولة، أما الأسلوب الثاني فيتمثل في دعم المشاريع التجارية الصغيرة والمتوسطة «SMEꞌs»، سواءً بالتمويل أو بتسهيل بيئة الأعمال، إضافة إلى تشجيع عمل المواطن في القطاع الخاص، وهذا لا يتم إلا بزيادة المكافئة المالية لدعم العمالة، وتعزيز الأمان الوظيفي.
بدأت الخصخصة «Privatization» في بريطانيا في سبعينيات القرن الماضي، ثم انتشرت في معظم دول العالم لتحل محل التأميم والاقتصاد العام الذي تقوده الدولة، بسبب ترسبات المذهب الاشتراكي والفكر الاقتصادي الذي حل بعد الكساد الكبير والحروب العالمية. وتسعى الخصخصة إلى رفع كفاءة الأداء الاقتصادي لتعزيز التنمية والنمو، كخفض كلفة الإنتاج وتحسين مستوى المنتج والخدمة، كما أنها توافر العديد من الوظائف وتحد من مستوى البطالة، ناهيك عن توسيع القاعدة الإنتاجية وتخفيف عجز الموازنة العامة للدولة، إضافة لتوجيه مدخرات القطاع الخاص نحو أسواق المال والنقد، الأمر الذي يحفّز ويطور من بنية وكيان أسواق المال.
ولكن رغم كل الإيجابيات، إلا أن للخصخصة سلبيات حالها كحال أي قرار أو توجه اقتصادي، ومن تلك السلبيات إضعاف القطاع العام الإنتاجي، رغم عدم وجود قطاع عام إنتاجي في الكويت إذا استثنينا القطاع النفطي، كما أن الخصخصة تفعّل بيئة أسواق الاحتكار بأنواعها، وكذلك فإنها – قد – تضعف الشركات الوطنية من خلال فتح المجال للاستثمار الأجنبي بقوة. ختاماً، وبالحديث عن الخصخصة وآلية تنفيذها بالشكل الصحيح، فإن التدرج في التطبيق هو الأسلوب الأمثل للحد من الآثار السلبية المصاحبة، إضافة إلى أن التخصيص يجب أن يشمل أولاً الشركات الحكومية غير الحيوية وغير المنتجة، كشركات النقل العام والمشروعات السياحية والمرافق العمومية وغيرها، ثم قطاع البريد والاتصالات وهكذا… وأعتقد أن تطبيق آلية التدرج بالكيفية المذكورة ستحد من مخاطر الخصخصة.
* باحـث اقتصـادي